فصل: تفسير الآية رقم (11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ لهم رداً عليهم وتحقيقاً للحق ‏{‏أَنزَلَهُ الذى يَعْلَمُ السر فِى السموات والارض‏}‏ وصفه تعالى بإحاطة علمه بجميع المعلومات الخفية والجلية المعلومة من باب أولى للإيذان بانطواء ما أنزله على أسرار مطوية عن عقول البشر مع ما فيه من التعريض بمجازاتهم بجناياتهم المحكية التي هي من جملة معلوماته تعالى أي ليس ذلك كما تزعمون بل هو أمر سماوي أنزله الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع لا تحوم حوله الأفهام حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته وأخبركم بمغيبات مستقبلة وأمور مكنونة لا يهتدي إليها ولا يوقف إلا بتوفيق الله تعالى العليم الخبير عليها، وإذا أرادوا بـ ‏{‏بكرة وأصيلاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏ خفية عن الناس ازداد موقع السر حسناً، وأما التذييل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ فهو للتنبيه على أنهم استوجبوا العذاب على ما هم عليه من الجنايات المحكية لكن أخر عنهم لما أنه سبحانه أزلاً وأبداً مستمر على المغفرة والرحمة المستتبعتين للتأخير فكأنه قيل إنه جل وعلا متصف بالمغفرة والرحمة على الاستمرار فلذلك لا يعجل عقوبتكم على ما أنتم عليه مع كمال استيجابه إياها وغاية قدرته سبحانه عليها ولولا ذلك لصب عليكم العذاب صباً، وذكر الطيبي أن فيه على هذا الوجه معنى التعجب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدِ استكبروا فِى أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وجوز أن يكون الكلام كناية عن الاقتدار العظيم على عقوبتهم لأنه لا يوصف بالمغفرة والرحمة إلا القادر على العقوبة، وفي إيثارها تعيير لهم ونعي على فعلهم يعني أنكم فيما أنتم عليه بحيث يتصدى لعذابكم من صفته المغفرة والرحمة وليس بذاك، وقال «صاحب الفرائد»‏:‏ يمكن أن يقال‏:‏ ذكر المغفرة والرحمة بعد ذلك لأجل أن يعرفوا أن هذه الذنوب العظيمة المتجاوزة عن الحد مغفورة إن تابوا وأن رحمته واصلة إليهم بعدها وأن لا ييأسوا من رحمته تعالى ما فرط منهم مع إصرارهم على ما هم عليه من المعاداة والمخاصمة الشديدة وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام‏}‏ الخ نزلت في جماعة من كفار قريش أخرج ابن أبي إسحق‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عتبة‏.‏ وشيبة ابني ربيعة‏.‏ وأبا سفيان بن حرب‏.‏ والنضر بن الحرث‏.‏ وأبا البحتري‏.‏ والأسود بن المطلب‏.‏ وزمعة بن الأسود‏.‏ والوليد بن المغيرة وأبا جعل بن هشام‏.‏ وعبد الله بن أبي أمية‏.‏ وأمية بن خلف‏.‏ والعاصي بن وائل‏.‏ ونبيه بن الحجاج‏.‏ ومنبه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض‏:‏ ابعثوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم عليه الصلاة والسلام فقالوا‏:‏ يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك وإن كنت تريد ملكاً ملكناك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه على أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله عز وجل بيني وبينكم» قالوا‏:‏ يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضنا عليك فسل لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً من ذهب وفضلة تغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما بي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولاً وأنزل علي كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله عز وجل بيني وبينكم» قالوا‏:‏ يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضنا عليك فسل لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«ما أنا بفاعل ما أنا بفاعل بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إلكيم بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيراً ونذيراً» فأنزل الله تعالى في قولهم ذلك ‏{‏وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول‏}‏ الخ‏.‏

وقد سيق هنا لحكاية جنايتهم المتعلقة بخصوص المنزل عليه الفرقان بعد حكاية جنايتهم التي تتعلق بالمنزل، وما استفهامية بمعنى إنكار الوقوع ونفيه في محل رفع على الابتداء والجار والمجرور بعدها متعلق بمحذوف خبر لها، وقد وقعت اللام مفصولة عن هذا المجرور بها في خط الإمام وهي سنة متبعة، وعنوا بالإشارة والتعبير بالرسول الاستهانة والتهكم، وجملة ‏{‏يَأْكُلُ الطعام‏}‏ حال من ‏{‏الرسول‏}‏ والعامل فيها ما عمل في الجار من معنى الاستقرار؛ وجوز أن يكون الجار والمجرور أي أي شيء وأي سبب حصل لهذا الزاعم أنه رسول حال كونه يأكل الطعام كما نأكل ‏{‏وَيَمْشِى فِى الاسواق‏}‏ لابتغاء الأرزاق كما نفعله على توجيه الإنكار والنفي إلى السبب فقط مع تحقق المسبب الذي هو مضمون الجملة الحالية‏.‏ ومن الناس من جوز جعل الجملة استئنافية والأول ما ذكرنا، ومرادهم استبعاد الرسالة المنافية لأكل الطعام وطلب المعاش على زعمهم فكأنهم قالوا‏:‏ إن صح ما يدعيه فما باله لم يخالف حاله حالنا وليس هذا إلا لعمههم وركاكة عقولهم وقصور أبصارهم على المحسوسات فإن تميز الرسل عليهم السلام عماعداهم ليس بأمور جسمانية وإنما هو بأمور نفسانية أعني ما جبلهم الله تعالى عليه من الكمال كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏ واستدل بالآية على إباحة دخول الأسواق للعلماء وأهل الدين والصلاح خلافاً لمن كرهه لهم‏.‏

‏{‏لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا‏}‏ تنزل عما تقدم كأنهم قالوا‏:‏ إن لم توجد المخالفة بيننا وبينه في الأكل والتعيش فهلا يكون معه من يخالف فيهما يكون ردءاً له في الإنذار فإن لم توجد فهلا يخالفنا في أحدهما وهو طلب المعاش بأن يلقى إليه من السماء كنز يستظهر به ويرتفع احتياجه إلى التعيش بالكلية فإن لم يوجد فلا أقل من رفع الاحتياج في الجملة بإتيان بستان يتعيش بريعه كما للدهاقين والمياسير من الناس‏.‏ والزمخشري ذكر أنهم عنوا بقولهم ‏{‏مَا لهذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِى فِى الاسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ أنه كان يجب أن يكون ملكاً ثم نزلوا عن ملكيته إلى صحبة ملك له يعينه ثم نزلوا عن ذلك إلى كونه مرفوداً بكنز ثم نزلوا فاقتنعوا بأن يكون له بستان يأكل منه ويرتزق، قيل الجملة الأخيرة فقط تنزل منهم وما قبل استئناف جواباً عما يقال كيف يخالف حاله صلى الله عليه وسلم حالكم وبأي شيء يحصل ذلك ويتميز عنكم‏؟‏ ولا يخفى ما فيه ونصب ‏{‏يَكُونَ‏}‏ على جواب التحضيض، وقرىء ‏{‏فَيَكُونُ‏}‏ بالرفع حكاه أبو معاذ، وخرج على أن يكون معطوف على ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ لأنه لو وقع موقعه المضارع لكان مرفوعاً لأنك تقول ابتداء لولا ينزل بالرفع وقد عطف عليه ‏{‏يُلْقِى‏}‏ و‏{‏تَكُونُ‏}‏ وهما مرفوعان أو هو جواب التحضيض على إضمار هو أي فهو يكون، ولا يجوز في مثل هذا التركيب نصب ‏{‏يُلْقِى‏}‏ وتكون بالعطف على يكون المنصوب لأنهما في حكم المطلوب بالتحضيض لا في حكم الجواب‏.‏

ولعل التعبير أولاً بالماضي مع أن الأصل في لولا التي للتحضيض أو العرض دخولها على المضارع لأن إنزال الملك مع قطع النظر عن أن يكون معه عليه الصلاة والسلام نذيراً أمر متحقق لم يزل مدعياً له صلى الله عليه وسلم فما أخرجوا الكلام حسبما يدعيه عليه الصلاة والسلام وإن لم يكن مسلماً عندهم، وفيه نوع تهكم منهم قاتلهم الله تعالى بخلاف الإلقاء وحصول الجنة، ولعل في التعبير بالمضارع فيهما وإن كان هو الأصل إشارة إلى الاستمرار التجددي كأنهم طلبوا شيئاً لا ينفد‏.‏ وذكر ابن هشام في «المغني» عن الهروي أنه قال بمجىء لولا للاستفهام ومثل له بمثالين أحدهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ‏}‏، وتعقب ذلك بأنه معنى لم يذكره أكثر النحويين، والظاهر أنها في المثال المذكور مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ جَاءو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 13‏]‏، وذكر أنها في ذلك للتوبيخ والتنديم وهي حينئذ تختص بالماضي، ولا يخفى أنه إن عنى بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ ما وقع هنا فأمر كونها فيه للتوبيخ والتنديم في غاية الخفاء فتدبر، وقرأ قتادة والأعمش ‏{‏أَوْ يَكُونَ‏}‏ بالياء آخر الحروف، وقرأ زيد بن علي‏.‏

وحمزة‏.‏ والكسائي وابن وثاب‏.‏ وطلحة‏.‏ والأعمش ‏{‏نَّأْكُلَ‏}‏ بالنون إسناداً للفعل إلى ضمير الكفر القائلين ماذكر ‏{‏وَقَالَ الظالمون‏}‏ هم القائلون الأولون وإنما وضع المظهر موضع ضميرهم تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوه لكونه إضلالاً خارجاً عن حد الضلال مع ما فيه من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى ما يشهد العقل والنقل ببراءته منه أو إلى ما يصلح أن يكون متمسكاً لما يزعمون من نفي الرسالة، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون المراد، وقال الكاملون في الظلم منهم وأياً ما كان فالمراد أنهم قالوا للمؤمنين ‏{‏إِن تَتَّبِعُونَ‏}‏ أي ما تتبعون ‏{‏إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا‏}‏ سحر فغلب على عقله فالمراد بالسحر ما به اختلال العقل، وقيل‏:‏ أصيب سحره أي رئته فاختل حاله كما يقال مرؤس أي أصيب رأسه، وقيل‏:‏ يسحر بالطعام وبالشراب أي يغذي أو ذا سحر أي رئة على أن مفعول للنسب وأرادا أنه عليه الصلاة والسلام، بشر مثلهم، وقيل أي ذا سحر بكسر السين وعنوا قاتلهم الله تعالى ساحراً، والأظهر على ما في «البحر» التفسير الأول، وذكر هو الأنسب بحالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال‏}‏ استعظام للأباطيل التي اجترؤا على التفوه بها وتعجيب منها أي انظر كيف قالوا في حقك الأقاويل العجيبة الخارجة عن العقول الجارية لغرابتها مجرى الأمثال واخترعوا لك تلك الصفات والأحوال الشاذة البعيدة من الوقوع ‏{‏فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً‏}‏ فبقوا متحيرين ضلالاً لا يجدون في القدح في نبوتك قولاً يستقرون عليه وإن كان باطلاً في نفسه فالفاء الأولى سببية ومتعلق ‏{‏ضَلُّواْ‏}‏ غير منيو والفاء الثانية تفسيرية أو فضلوا عن طريق الحق فلا يجدون طريقاً موصولاً إليه فإن من اعتاد استعمال هذه الأباطيل لا يكاد يهتدي إلى استعمال المقدمات الحقة فالفاء في الموضعين سببية ومتعلق ‏{‏ضَلُّواْ‏}‏ منوي ولعل الأول أولى، والمراد نفى أن يكون ما أتوا به قادحاً في نبوته صلى الله عليه وسلم ونفى أن يكون عندهم مايصلح للقدح قطعاً على أبلغ وجه فإن القدح فيها إنما يكون في القدح بالمعجزات الدالة عليها وما أتوا به لا يفيد ذلك أصلاً وأنى لهم بما يفيده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏تَبَارَكَ الذى إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً‏}‏ أي تكاثر خير الذي إن شاء وهب لك في الدنيا شيئاً خيراً لك مما اقترحوه وهو أن يجعل لك مثل ما وعدك في الآخرة من الجنات والقصور كذا في «الكشاف»، وعن مجاهد إن شاء جعل لك جنات في الآخرة وقصوراً في الدنيا ولا يخفى ما فيه، وقيل‏:‏ المراد إن شاء جعل ذلك في الآخرة، ودخلت ‏{‏ءانٍ‏}‏ على فعل المشيئة تنبيهاً على أنه لا ينال ذلك إلا برحمته تعالى وأنه معلق على محض مشيئته سبحانه وليس لأحد من العباد والعباد على الله عز وجل حق لا في الدنيا ولا في الآخرة، والأول أبلغ في تبكيت الكفار والرد عليهم، ولا يرد كما زعم ابن عطية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 11‏]‏ كما ستعلمه إن شاء الله تعالى، والظاهر أن الإشارة إلى ما اقترحوه من الكنز والجنة وخيرية ما ذكر من الجنة لما فيه من تعدد الجنة وجريان الأنهار والمساكن الرفيعة في تلك الجنان بأن يكون في كل منها مسكن أو في كل مساكن ومن الكنز لماأنه مطلوب لذاته بالنسبة إليه وهو إنما يطلب لتحصيل مثل ذلك وهو أيضاً أظهر في الأبهة وأملأ لعيون الناس من الكنز، وعدم التعرض لجواب الاقتراح الأول لظهور منافاته للحكمة التشريعية وربما يعلم من كثير من الآيات كذا قيل‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم أن الإشارة إلى ما اقترحوه من أن يكون له صلى الله عليه وسلم جنة يأكل منها ‏{‏وجنات‏}‏ بدل من ‏{‏خَيْرًا‏}‏ محقق لخيريته مما قالو لأن ذلك كان مطلقاً عن قيد التعدد وجريان الأنهار، وتعلق ذلك بمشيئته تعالى للإيذان بأن عدم الجعل لعدم المشيئة المبنية على الحكم والمصالح، وعدم التعرض لجواب الاقتراحين الأولين للتنبيه على خروجهما عن دائرة العقل واستغنائهما عن الجواب لظهور بطلانهما ومنافاتهما للحكمة التشريعية وإنما الذي له وجه في الجملة هو الاقتراح الأخير فإنه غير مناف للحكمة بالكلية فإن بعض الأنبياء عليهم السلام قد أوتوا في الدنيا مع النبوة ملكاً عظيماً انتهى، وهذ الذي ذكره في الإشارة جعله الإمام الرازي قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وما ذكر أولاً استظهره أبو حيان وحكاه عن مجاهد، وحكى عن ابن عباس أنها إشارة إلى ما عيروا به من أكل الطعام والمشي في الأسواق وقال‏:‏ إنه بعيد، وحكاه الإمام عن عكرمة وكأني بك تختار ما اختاره صاحب الإرشاد، والظاهر أن ‏{‏يَجْعَلْ‏}‏ مجزوم فيكون معطوفاً على محل الجزاء الذي هو جعل وهو جزاء أيضاً وقد جيء به جملة استقبالية على الأصل في الجزاء، فقد ذكر أهل المعاني أن الأصل في جملتي إن الشرطية أن تكونا فعليتين استقباليتين لفظاً كما أنهما مستقبلتان معنى، والعدول عن ذلك في اللفظ لا يكون إلا لنكتة‏.‏

وكأن التعبير على هذا بالجملتين الماضويتين لفظاً في ‏{‏إِن شَاء جَعَلَ‏}‏ الخ لزيادة تبكيت الكفار فيما اقترحوا من جنسه، ولما لم يقترحوا ما هو جنس جعل القصور لم يسلك فيه ذلك المسلك فتدبر، وقيل‏:‏ كان الظاهر نعد التعبير أولاً في الجزاء بالماضي أن يعبر به هنا أيضاً لكنه عدل إلى المضارع لأن جعل القصور في الجنان مستقبل بالنسبة إلى جعل الجنان، ثم أن هذا العطف يقتضي عدم دخول القصور في الخير المبدل منه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏جنات‏}‏ وكان ما تقدم عن «الكشاف» بيان لحاصل المعنى بمعونة السياق، وجوز أن يكون مرفوعاً أدغمت لامه في لام ‏{‏لَكَ‏}‏ لكن إدغام المثلين إذا تحرك أولهما إنما هو مذهب أبي عمرو، والذي قرأ بالتسكين من السبعة هو وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ ونافع‏.‏ وفي رواية محبوب عنه أنه قرأ بالرفع بلا إدغام وهي قراءة ابن عامر‏.‏ وابن كثير‏.‏ ومجاهد‏.‏ وحميد‏.‏ وأبي بكر، والعطف على هذه القراءة واحتمال الإدغام عند ابن عطية على المعنى في ‏{‏جَعَلَ‏}‏ لأن جواب الشرط موضع استئناف ألا يرى أن الجملة من المبتدأ والخبر قد تقع موقع جواب الشرط‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ هو معطوف على ‏{‏جَعَلَ‏}‏ لأن الشرط إذا كان ماضياً جاز في جوابه الجزم والرفع كقول زهير في مدح هرم بن سنان‏.‏

وإن أتاه ليل يوم مسغبة *** يقول لا غائب مالي ولا حرم

ومذهب سيبويه أن الجواب في مثل ذلك محذوف وأن المضارع المرفوع على نية التقديم، وذهب الكوفيون، والمبرد إلى أنه هو الجواب وأنه على حذف الفاء‏.‏ والتركيب عند الجمهور فصيح سائغ في النثر كالشعر، وحكى أبو حيان عن بعض أصحابه أنه لا يجوز إلا في الضرورة إذ لم يجيء إلا في الشعر، وتمام الكلام في تحقيق المذاهب في محله، وقال الحوفي‏.‏ وأبو البقاء‏:‏ الرفع على الاستئناف قيل وهو استئناف نحوي، والكلام وعد له صلى الله عليه وسلم بجعل تلك القصور في الآخرة ولذا عدل عن الماضي إلى المضارع الدال على الاستقبال، وقيل‏:‏ هو استئناف بياني كان قائلاً يقول‏:‏ كيف الحال في الآخرة‏؟‏ فقيل‏:‏ يجعل لك فيها قصوراً، وجعل بعضهم على الاستئناف هذا الجعل في الدنيا أيضاً على معنى إن شاء جعل لك في الدنيا جنات ويجعل لك في تلك الحنات قصوراً إن تحققت الشرطية وهو كما ترى، وقيل‏:‏ الرفع بالعطف على ‏{‏تَجْرِى‏}‏ صفة بتقدير ويجعل فيها أي الجنات، وليس بشيء، وقرأ عبيد الله بن موسى‏.‏ وطلحة بن سليمان ‏{‏وَيَجْعَلَ‏}‏ بالنصب على إضمار أن، ووجه على ما نقل عن السيرافي أن الشرط لما كان غير مجزوم أشبه الاستفهام، وقيل‏:‏ لما كان غير واقع حال المشارطة أشبه النفي، وقد ذكر النصب بعده سيبويه، وقال إنه ضعيف، وقيل‏:‏ الفعل مرفوع وفتح لامه اتباعاً للام ‏{‏لَكَ‏}‏ نظير ما قيل في قوله‏:‏

لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت *** حمامة في غصون ذات أوقال

من أنه فتح راء غير اتباعاً لهمزة أن وهو أحد وجهين في البيت، ونظير الآية في هذه القراآت قول النابغة‏:‏

فإن يهلك أبو قابوس يهلك *** ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش *** أجب الظهر ليس له سنام

فإنه يروى في نأخذ الجزم والرفع والنصب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة‏}‏ انتقال إلى حكاية نوع آخر من أباطيلهم متعلق بأمر المعاد وما قبل كان متعلقاً بأمر التوحيد وأمر النبوة ولا يضر في ذلك العود إلى ما يتعلق بالكلام السابق، واختلاف أساليب الحكاية لاختلاف المحكي، وما ألطف تصدير حكاية ما يتعلق بالآخرة ببل الانتقالية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً‏}‏ الخ لبيان ما لهم مفي الآخرة بسبب أي هيأنا لهم ناراً عظيمة شديدة الاشتعال شأنها كيت وكيت بسبب تكذيبهم بها على ما يشعر به وضع الموصول موضع ضميرهم أو لكل من كذب بها كائناً من كان وهم داخلون في ذلك دخولاً أولياً، ووضع الساعة موضع ضميرها للمبالغة في التشنيع، وهذا الارعتداد وإن كان ليس بسبب تكذيبهم بها خاصة بل يشاركه في السببية له ارتكابهم الاباطيل في أمر التوحيد وأمر النبوة إلا أنه لما كانت الساعة نفسها هي العلة القريبة لدخولهم السعير أشير بما ذكر إلى سببية التكذيب بها لدخولها ولم يتعرض للإشارة إلى سببية شيء آخر؛ وقيل إن من كذب بالساعة صار كالإسم لأولئك المشركين والمكذبين برسول الله صلى الله عليه وسلم والمكذبين بالساعة أي الجامعين للأوصاف الثلاثة لأن التكذيب بها أخص صفاتهم القبيحة وأكثر دوراناً على ألسنتهم إذ من الكفار من يشرك ويكذب برسول الله عليه الصلاة والسلام ولا يكذب بالساعة‏.‏ فالمراد من يكذب بالساعة أولئك الصنف من الكفرة وهو كما ترى‏.‏

وقيل‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة‏}‏ عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ مَا لهذا الرسول‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ الخ واضراب عنه إلى ما هو أعجب منه على معنى أن ذلك تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم وهذا تكذيب لله سبحانه‏.‏ وتعالى ففي «صحيح البخاري» عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك إلى قوله تعالى فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ‏"‏ وظاهره أن أعجبية التكذيب بالساعة لأنه تكذيب لله عز وجل، وقال بعضهم‏:‏ إن الأعجبية لأنهم أنكروا قدرة الله تعالى على الإعادة مع ما شاهدوه ففي الأنفس والآفاق وما ارتكز في أوهامهم من أن الإعادة أهون من الابداء وليس ذلك لأنه تكذيب الله عز وجل فإنهم لم يسمعوا أمر الساعة إلا من النبي صلى الله عليه وسلم فهو تكذيب له عليه الصلاة والسلام فيه، وأنت تعلم أن في لحديث إشارة إلى ما ارتضاه‏.‏

وقيل‏:‏ اضراب عن ذاك على معنى أتوا بأعجب منه حيث كذبوا بالساعة وأنكروها والحال أنا قد اعتدنا لمن كذب بها سعيراً فإن جراءتهم على التكذيب بها وعدم خوفهم مما أعد لمن كذب بها من أنواع العذاب أعجب من القول السابق‏.‏

وتعقب بأنه لا نسلم كون الجراءة على التكذيب بالساعة أعجب من الجراءة على القول السابق بعد ظهور المعجزة ولا نسلم أن انضمام عدم الخوف مما يترتب عليه إذا كان ذلك الترتب في الساعة المكذب بها يفيد شيئاً وفيه تأمل، وقيل‏:‏ هو إضراب عن ذلك على معنى أتوا باعجب منه حيث كذبوا بالساعة التي أخبر بها جميع الأنبياء عليهم السلام فالجراءة على التكذيب بها جراءة على التكذيب بهم والجراءة على التكذيب بهم أعجب من الجراءة على القول الساقق‏.‏ وتعقب بأن مرادهم من القول السابق نفي نبوته عليه الصلاة والسلام وتكذيبه وحاشاه ثم حاشاه من الكذب في دعواه إياها لعدم مخالفة حاله صلى الله عليه وسلم حالهم واتصافه بما زعموا منافاته للرسالة وذلك موجود ومتحقق في جميع الأنبياء عليهم السلام، فتكذيبه صلى الله عليه وسلم لذلك تكذيب لهم أيضاً فلا يكون التكذيب بالساعة على ما ذكر أعجب من تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم لاشتراك التكذيبين في كونهما في حكم تكذيب الكل، وقيل‏:‏ هو متصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الذى إِن شَاء‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 10‏]‏ الخ الواقع جواباً لهم والمنبىء عن الوعد بالجنات والقصور في الآخرة مسوق لبيان أن ذلك لا يجدي نفعاً على طريقة قول من قال‏:‏ عوجوا لنعم فحيوا دمنة الدار *** ماذا تحيون من نؤى وأحجار

والمعنى أنهم لا يؤمنون بالساعة فكيف يقتنعون بهذا الجواب وكيف يصدقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة، وقيل‏:‏ إضراب عن الجواب إلى بيان العلة الداعية لهم إلى التكذيب، والمعنى بل كذبوا بالساعة فقصرت أنظارهم على الحظوظ الدنيوية وظنوا أن الكرامة ليست إلا بالمال وجعلوا خلو يدك عنه ذريعة إلى تكذيبك

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ‏}‏ إِلى آخره صفة للسعير والتأنيث باعتبار النار، وقيل لأنه علم لجهنم كما روي عن الحسن‏.‏ وفيه أنه لو كان كذلك لامتنع دخول أل عليه ولمنع من الصرف للتأنيث والعلمية‏.‏

وأجيب بأن دخول أل للمح الصفة وهي تدخل الاعلام لذلك كالحسن‏.‏ والعباس وبأنه صرف للتناسب ورعاية الفاصلة‏.‏ أو لتأويله بالمكان وتأنيثه هنا للتفنن، وإسناد الرؤية إليها حقيقة على ما هو الظاهر وكذا نسبة التغيظ والزفير فيما بعد إذ لا امتناع في أن يخلق الله تعالى النار حية مغتاظة زافرة على الكفار فلا حاجة إلى تأويل الظواهر الدالة على أن لها إدراكاً كهذه الآية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلات وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 30‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم كما في «صحيح البخاري»‏:‏ ‏"‏ شكت النار إلى ربها فقالت‏:‏ رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف ‏"‏ إلى غير ذلك، وإذا صح ما أخرجه الطبراني‏.‏ وابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من بين عيني جهنم قالوا‏:‏ يا رسول الله هل لجهنم من عين‏؟‏ قال‏:‏ نعم أم مسعتم الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ فهل تراهم إلا بعينين ‏"‏ كان ما قلناه هو الصحيح‏.‏ وإسنادها إليها لا إليهم للإيذان بأن التغيظ والزفير منها لهيجان غضبها عليهم عند رؤيتها إياهم ‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه، وروي أنه هنا مسيرة خمسمائة عام‏.‏ وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس أنه مسيرة مائة عام وحكى ذلك عن السدى‏.‏ والكلبي‏.‏ وروي أيضاً عن كعب، وقيل‏:‏ مسيرة سنة وحكاه الطبرسي عن الإمام أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه، ونسبه في إرشاد العقل السليم إلى السدى‏.‏ والكلبي ‏{‏سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً‏}‏ أي صوت تغيظ ليصح تعلق السماع به‏.‏ وفي مفردات الراغب الغيظ أشد الغضب والتغيظ هو إظهار الغيظ وقد يكون ذلك مع صوت مسموع كما في هذه الآية، وقيل‏:‏ أريد بالسماع مطلق الإدراك كأنه قيل‏:‏ أدركوا لها تغيظاً ‏{‏وَزَفِيراً‏}‏ هو إِخراج النفس بعد مدة على ما في القاموس، وقال الراغب‏:‏ هو ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه وشاع استعماله في نس صوت ذلك النس، ولا شبهة في أنه مما يتعلق به السماء ولذا استشكلوا تعلق السماع بالتغيظ دون الزفير فأولوا لذلك بما سمعت، وقال بعضهم‏:‏ إن ما ذكر من قبيل قوله‏:‏ ورأيت زوجك قد غدا *** متقلداً سيفاً ورمحاً

وهو بتقدير سمعوا لها وأدركوا تغيظاً وزفيراً ويعاد كل إلى ما يناسبه‏.‏ ومن الناس من قال‏:‏ الكلام خارج مخرج المبالغة بجعل التغيظ مع أنه ليس من المسموعات مسموعاً، والتنوين فيه وفي ‏{‏زفيراً‏}‏ للتفخيم‏.‏

وقد جاء في الآثار ما يدل على شدة زفيرها أعاذنا الله تعالى منها، ففي خبر أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس أنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف‏.‏ وأخرج ابن المنذر‏.‏ وابن جرير‏.‏ وغيرهما عن عبيد بن عمير أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا‏}‏ الخ‏:‏ إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا ترعد فرائصه حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول‏:‏ يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي‏.‏ وأخرج أبو نعيم عن كعب قال‏:‏ إذا كان يوم القيامة جمع الله تعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد فنزلت الملائكة صفوفاً فيقول الله تعالى لجبريل عليه السلام‏:‏ ائت بجهنم فيأتي بها تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق ثم زفرت ثانية فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتذهل العقول فيفزع كل امرىء إلى عمله حتى إن إبراهيم عليه السلام يقول‏:‏ بخلتي لا أسألك إلا نفسي ويقول موسى عليه السلام‏:‏ بمناجاتي لا أسألك إلا نفسي ويقول عيسى عليه السلام‏:‏ بما أكرمتني لا أسألك إلا نفسي لا أسألك مريم التي ولدتني ومحمد صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ أمتى أمتى لا أسألك اليوم نفسي فيجيبه الجليل جل جلاله إن أوليائي من أمتك لا خوف عليهم ولا هم هم يحزنون فوعزتي لأقرن عينك ثم تقف الملائكة عليهم السلام بين يدي الله تعالى ينتظرون ما يؤمرون وهذه الأخبار ظاهرة في أن النار هي التي تزفر وأن الزفير على حقيقته‏.‏

وزعم بعضهم أن زفيرها صوت لهيبها واشتعالها، وقيل‏:‏ إن كلا من الرؤية والتغيظ والزفير لزبانيتها ونسبته إليها على حذف المضاف ونقل ذلك عن الجبائي، وقيل‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَأَتْهُمْ‏}‏ من قوله صلى الله عليه وسلم «إن المؤمن والكافر لا تتراءى نارهما» وقولهم‏:‏ دورهم تتراءى وتتناظر كان بعضها يرى بعضاً على سبيل الاستعارة بالكناية والمجاز المرسل، وجوز أن يكون من باب التمثيل، وأياً ما كان فالمراد إذا كانت بمرأى منهم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً‏}‏ على تشبيه صوت غليانها بصوت المغتاظ وزفيره وفيه استعارة تصريحية أو مكنية وجوز أن تكون تمثيلية، وقد دكر هذا التأويل الزمخشري مقدماً له؛ وذكر بعض الأئمة أن هذا مذهب المعتزلة لأنهم جعلوا البينة شرطاً في الحياة‏.‏

وفي الكشف الأشبه أن ذلك ليس لأن البينة شرط ومن أين العلم بأن بنية نار الآخرة بحيث لا تستعد للحياة بل لأنه لا بد من ارتكاب خلاف الظاهر من جعل الشيء المعروف جماديته حيا ناطقا فكان خبراً على خلاف المعتاد أو الحمل على المجاز التمثيلي الشائع في كلامهم لا سيما في كلام الله تعالى ورسله عليهم السلام وإذ لاح الوجه فكن الحاكم في ترك الظاهر إلى هذا أو ذاك، وفتح هذا الباب لا يجر إلى مذهب الفلاسفة كما توهم صاحب الانتصاف ولا يخالف تعبدنا بالظواهر فإن ما يدعونه أيضاً ليس بظاهر انتهى، وأنت تعلم بعد الاغماض عن المناقشة فيما ذكر أن الحمل على الحقيقة هنا أبلغ في التهويل ولعله يهون أمر الخبر على خلاف المعتاد؛ وهذا إن لم يصح الخبر السابق أما إذا صح فلا ينبغي العدول عما يقتضيه وليس لأحد قول مع قوله صلى الله عليه وسلم فإنه الأعلم بظاهر الكتاب وخافيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً‏}‏ أي في مكان فهو منصوب على الظرفية و‏{‏مِنْهَا‏}‏ حال منه لأنه في الأصل صفة، وجوز تعلقه بألقوا‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَيّقاً‏}‏ صفة لمكانا مقيدة لزيادة شدة الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة وهو السر في وصف الجنة بأن عرضها السموات والأرض‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإَذَا أُلْقُواْ‏}‏ الخ فقال‏:‏ والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها تضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح‏.‏

وقرأ الكلبي‏:‏ الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يحطهم الداخلون فيزدحمون، وقرأ ابن كثير ‏{‏ضَيّقاً‏}‏ بسكون الياء‏.‏

‏{‏مُقْرِنِينَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏أَلْقَوْاْ‏}‏ أي إذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً حال كونهم مقرنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع، وقيل‏:‏ مقرنين مع الشياطين في السلاسل كل كافر مع شيطانه وفي أرجلهم الأصفاد، وحكى عن الجبائي، وقرأ أبو شيبة صاحب معاذ بن جبل ‏{‏مقرنون‏}‏ بالرفع ونسبها ابن خالويه إلى معاذ، ووجهها على ما في البحر كونه بدلاً من ضمير ‏{‏قَالَ أَلْقَوْاْ‏}‏ بدل نكرة من معرفة ‏{‏دَعَوْاْ هُنَالِكَ‏}‏ أي في ذلك المكان الهائل ‏{‏ثُبُوراً‏}‏ أي هلاكاً كما قال الضحاك‏.‏ وقتادة وهو مفعول ‏{‏دَّعَوَا‏}‏ أي نادوا ذلك فقالوا‏:‏ يا ثبوراه على معنى أحضر فهذا وقتك، وجعل غير واحد النداء بمعنى التمني فيتمنون الهلاك ليسلموا مما هو أشد منه كما قيل أشد من الموت ما يتمنى معه الموت‏.‏

وجوز أبو البقاء نصب ‏{‏ثُبُوراً‏}‏ على المصدرية لدعوا على معنى دعوا دعاء، وقيل‏:‏ على المصدرية لفعل محذوف ومفعول ‏{‏دَّعَوَا‏}‏ مقدر أي دعوا من لا يجيبهم قائلين ثبرنا ثبوراً وكلا القولين كما ترى، ولا اختصاص لدعاء الثبور بكفرة الإنس فإنه يكون للشيطان أيضاً‏.‏ أخرج أحمد‏.‏ وابن أبي شيبة‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ والبزار‏:‏ وابن املنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في البعث بسند صحيح عن أنس قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أول من يكسي حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه وذريته من بعده وهو ينادي يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم حتى يقف على النار‏:‏ فيقول يا ثبوراه ويقولون يا ثبورهم» الحديث، وفي بعض الروايات أن أول من يقول ذلك إبليس ثم يتبعه أتباعه، وظاهره شمول الاتباع كفرة الأنس والجن، ولا يتوهم اختصاص ذلك ببعض كفرة الإنس بناء على ما قيل‏:‏ إن الآية نزلت في أبي جهل‏.‏

وأصحابه لما لا يخفى

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا‏}‏ على تقدير قول إما منصوب على أنه حال من فاعل ‏{‏دَّعَوَا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 13‏]‏ أي دعوا مقولاً لهم ذلك حقيقة كما هو الظاهر بأن تخاطبهم الملائكة لتنبيههم على خلود عذابهم وأنهم لا يجابون إلى ما يدعونه أولا ينالون ما يتمنونه من الهلاك المنجى أو تمثيلاً لهم وتصويراً لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول وخطاب كما قيل أي دعوه حال كونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك، وإما لا محل له من الإعراب على أنه معطوف على ما قبله أي إذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً دعوا ثبوراً فيقال لهم‏:‏ لا تدعوا الخ، أو على أنه مستأنف وقع جواباً عن سؤال مقدر ينسحب عليه الكلام كأنه قيل‏:‏ فماذا يكون عند دعائهم المذكور‏؟‏ فقيل‏:‏ يقال لهم ذلك، والمراد به إقناطهم عما علقوا به أطماعهم من الهلاك وتنبيههم على أن عذابهم الملجىء لهم إلى ذلك أبدى لاخلاص لهم منه على أبلغ وجه حيث أشار إلى أن المخلص مما هو فيه من العذاب عادة غير مخلص وما يخلص غير ممكن فكأنه قيل‏:‏ لا تدعوا اليوم هلاكاً واحداً فا لا يخلصكم ‏{‏وادعوا ثُبُوراً‏}‏ وهلاكاً ‏{‏كَثِيراً‏}‏ لا غاية لكثرته لتخلصوا به وأنى بالهلاك الكثير‏.‏ ومن لم يمت بالسيف مات بغيره *** تعددت الأسباب والموت واحد

وهذا معنى دقيق لم أعلم أن أحداً ذكره، وقيل‏:‏ وصف الثبور بالكثرة باعتبار كثرة الألفاظ المشعرة به فكأنه قيل‏:‏ لا تقولوا يا ثبوراه فقط وقولوا يا ثبوراه يا هلا كاه يا ويلاه يا لهفاه إلى غير ذلك وهو كما ترى‏.‏

وقال شيخ الإسلام‏:‏ وصفه بذلك بحسب كثرة الدعاء المتعلق به لا بحسب كثرته في نفسه فإن ما يدعونه ثبور واحد في حد ذاته لكنه كلما تعلق به دعاء من تلك الأدعية الكثيرة صار كأنه ثبور مغاير لما تعلق به دعاء آخر، وتحقيقه لا تدعوه دعاء واحداً وادعوه أدعية كثيرة فإن ما أنتم فيه من العذاب لغاية شدته وطول مدته مستوجب لتكرير الدعاء في كل آن، ثم قال‏:‏ وهذا أدل على فظاعة العذاب وهو له من جعل تعدد الدعاء وتجدده لتعدد العذاب بتعدد أنواعه وألوانه أو لتعدده بتجدد الجلود كما لا يخفى، وأما ما قيل من أن المعنى إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً إنما هو ثبور كثير اما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها فلا غاية لهلاكهم فلا يلائم المقام كيف وهم إنما يدعون هلاكاً ينهى عذابهم وينجيهم منه فلا بد أن يكون الجواب إقناطاً لهم عن ذلك ببيان استحالته ودوام ما يوجب استدعاءه من العذاب الشديد انتهى، وتعقب القول بأن وصف الثبور بالكثرة بحسب كثرة الدعاء بأنه لا يناسب النظم وكذا كونه بحسب كثرة الألفاظ المشعرة بالثبور لأنه كان الظاهر أن يقال دعاء كثيراً، وأما قوله‏:‏ وأما ما قيل الخ فهو لا يخلو عن بحث فتأمل‏.‏

وحكى علي بن عيسى ما ثبرك عن هذا الأمر أي ما صرفك عنه، وجوز أن يكون الثبور في الآية من ذلك كأنهم ندموا على ما فعلوا فقالوا‏:‏ واصرفاه عن طاعة الله تعالى كما يقال‏:‏ واندماه فأجيبوا بما أجيبوا، وتقييد النهي والأمر باليوم لمزيد التهويل والتفظيع والتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام المعهودة التي يخلص من عذابها ثبور واحد، ويجوز أن يكون ذلك لتذكيرهم بالساعة التي أصابهم ما أصابهم بسبب التكذيب بها ففيه زيادة إيلام لهم، وقرأ عمر بن محمد ‏{‏ثُبُوراً‏}‏ بفتح الثاء في ثلاثتها وفهول بفتح الفاء في المصادر قليل نحو القفول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 16‏]‏

‏{‏قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا ‏(‏15‏)‏ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ تقريعاً لهم وتهكماً بهم وتحسيراً على ما فاتهم ‏{‏أذلك‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من السعير باعتبار اتصافها بما فصل من الأحوال الهائلة فإنها التي كثيرا ما تقابل بالجنة، وما فيه من معنى البعد للإشعار بكونها في الغاية القاصية من الهول والفظاعة، وقيل‏:‏ إشارة إلى ما ذكر من الجنة والكنز في قولهم‏:‏ ‏{‏أو يلقى إليه كنز‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 8‏]‏ الخ‏.‏

وقيل‏:‏ إلى الجنة والقصور المجعولة في الدنيا على تقدير المشيئة وكلا القولين لا يعول عليهما لا سيما الأخير أي أذلك الذي ذكر من السعير التي اعتدت لمن كذب بالساعة وشأنها كيت وكيت وشأن أهلها ذيت ذيت ‏{‏خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التى وَعِدَ المتقون‏}‏ أي وعدها المتقون لأن وعد تتعدى لمفعولين وهذا المحذوف هو العائد على الموصول؛ وإِضافة الجنة إلى الخلد إن كانت نسبة الإضافة معلومة للمدح فإن المدح يكون بما هو معلوم، وإن لم تكن معلومة فلافادة خلود الجنة، ولا يخدشه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خالدين‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 16‏]‏ بعد لأنه للدلالة على خلود أهلها لا خلودها في نفسها وإن تلازماً أو أن ذلك للتمييز عن جنات الدنيا، وقيل‏:‏ إن جنة الخلد علم كجنة عدن، والمراد بالمتقين المتصفون بمطلق التقوى لا بالمرتبة الثانية أو الثالثة منها فقط، ويدل عليه مقابلتهم بالكافرين في النظم الكريم، وقيل‏:‏ يجوز أن يراد الكاملون في التقوى ووعدها إياهم وعدد خولها ابتداء دون سبق عذاب وهو مختص بهم وليس بذاك، والترديد والتفضيل في ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ مع أنه لا شك في أنه لا خيرية في السعير للتهكم والتقريع كما أشرنا إليه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ حيث كان الكلام استفهاماً جاز فيه مجيء لفظة التفضيل بين الجنة والسعير في الخير لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما شاء ليرى هل يجيبه بالصواب أو بالخطأ، وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل إذا كان الكلام خيراً لأن فيه مخالفة الواقع، وأما إذا كان استفهاماً فذلك سائغ، وقال أبو حيان‏:‏ إن ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ هنا ليس للدلالة على الأفضلية بل هو على ما جرت به عادة العرب في بيان فضل الشيء وخصوصيته بالفضل دون مقابله كقول حسان‏:‏ فشركما لخيركما الفدا *** وقولهم الشقاء أحب أليك أم السعادة والعسل أحلى من الخل، وقوله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام ‏{‏السجن أَحَبُّ إِلَىَّ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 33‏]‏ ولا اختصاص لذلك في استفهام أو خبر‏.‏

وما ذكر من أمثلة الخبر يرد على ابن عطية إلا أن يقيد الخير الذي ادعى منه سيبويه فيه بما لم يكن الحكم فيه واضحاً أما إذا كان الحكم فيه واضحاً للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد في الأفضل فإن التفضيل يجوز فيه، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذا المقام وما أشرنا إليه هنا أولى بالاعتبار مما أشار ابن عطية وأبو حيان إليه‏.‏

‏{‏كَانَتْ‏}‏ تلك الجنة ‏{‏لَهُمْ‏}‏ أي في علم الله تعالى أو في اللوح أو المراد تكون على أنه وعد من أكرم الأكرمين عبر عنه بالماضي على طريق الاستعارة لتحقيق وقوعه فإنه سبحانه لا يخلف الميعاد، وجوز أن يكون هذا باعتبار تقدم وعده تعالى في كتبه وعلى لسان رسله عليهم الصلاة والسلام أياهم بها ‏{‏جَزَاء‏}‏ على أعمالهم بمقتضى الوعد لا بالإيجاب ‏{‏وَمَصِيراً‏}‏ ينقلبون إليه، ولم يكتف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء‏}‏ لعدم استلزامه ذلك فقد يثبت الملك في الدنيا إنساناً ببستان مثلاً ولا يرأه فضلاً عن أن يسكن فيه، وجملة ‏{‏كَانَتْ لَهُمْ‏}‏ الخ على ما ذكره الطبرسي في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على الموصول في ‏{‏وُعِدَ المتقون‏}‏ بتقدير قد أو بدونه، وجوز أن تكون بدلاً من ‏{‏وُعِدَ المتقون‏}‏ وتفسيراً له، وأن تكون استئنافاً في موضع التعليل‏.‏

وذكر الزمخشري ما يشعر بأن هذه الجملة تذييل لتذكير النعمة بما خولهم الله تعالى وطيب عيشهم في ذلك المكان الرافع على وجه يتضمن ضد ذلك لأضدادهم فكأنه قيل كلنت لهم جزاء موفوراً لا يدخل تحت الوصف ومصيراً أي مصيراً لا يقادر قدره وليس كمصير الكفرة المشار إليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 13‏]‏ ويعلم منه فائدة ذكر المصير مع ذكر الجزاء فتأمل، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءونَ‏}‏ قيل استئناف وقع جواباً لسؤال نشأ مما قبله حيث أفاد أن الجنة مسكن لهم والساكن في دار يحتاج إلى أشياء كثيرة لتطيب نفسه بسكناها فكأن سائلا يقول‏:‏ ما لهم إذا صاروا إليها وسكنوا فيها‏؟‏ فقيل لهم فيها ما يشاؤون، وقال الطبرسي‏:‏ الجملة في موضع الحال من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏المتقون‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 15‏]‏ وما موصولة مبتدأ والعائد محذوف و‏{‏لَهُمْ‏}‏ خبره‏}‏ و‏{‏‏}‏ و‏{‏فِيهَا‏}‏ متعلق بما تعلق به أي كائن لهم فيها الذي يشاؤونه من فنون الملاذ والمشتهيات وأنواع النعيم الورحاني والجسماني، ولعل كل فريق يقتنع بما أبيح له من درجات النعيم ويرى ما هو فيه ألذ الأشياء ولا تمتد أعناق هممهم إلى ما فوق ذلك من المراتب العالية ولا يخطر بباله ما يخطر طلبة ولا يتأتى له فلا يشاء آخاد المؤمنين رتبة الأنبياء عليهم السلام ولا يتعرضون للشفاعة لمن كتب عليه الخلود في النار مثلا فلا يلزم الحرمان ولا تساوي مراتب أهل الجنان، وعلى ضد هؤلاء فيما ذكر أهل النار فقد قال سبحانه فيهم ‏{‏وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 54‏]‏‏.‏

‏{‏خالدين‏}‏ حال من أحد ضمائرهم على ما قيل وظاهره عدم الترجيح، وقال بعض الأفاضل‏:‏ جعله حالاً من الأول يقتضي كونها حالاً مقدرة ومن الثالث يوهم تقييد المشيئة بها فخير الأمور أوسطها، ورجح بعضهم الثالث لقربه والتقييد غير مخل بل مهم، وجوز كونها حالاً من المتقين ولا يخفى حاله، ولبعض الأجلة ههنا كلام فيه بحث ذكره الحمصي في حواشي التصريح فليراجع ‏{‏كَانَ‏}‏ أي الوعد بما ذكر أو الموعود المفهوم من الكلام فيشمل الوعد بالجنة وبحصول ما يشاؤون لهم فيها وبالخلود على الأول والجنة وحصول المرادات والخلود الموعود بها على الثاني، وقال بعضهم‏:‏ الضمير للخلود، وآخر لحصول ما يشاؤون لهم فيها أوله ولكون الجنة جزاءً ومصيراً، والإفراد باعتبار ما ذكر ويغني عنه ما سمعت، والأكثرون على أنه لما يشاؤون وهو اسم كان وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على رَبِّكَ‏}‏ متعلق بها أو بمحذوف وقع حالاً من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعْداً‏}‏ وهو خبرها، ولم يجوز تعلق الجار به سواء كان باقياً على مصدريته أو مؤولاً باسم المفعول أي موعوداً لما علمت من الخلاف في مرجع الضمير بناءً على منع تقديم معمول المصدر عليه وإن كان مؤولاً بغيره أو كان المقدم ظرفاً وفيه خلاف، وجوز أن يكون ‏{‏على رَبِّكَ‏}‏ متعلقاً بمحذوف هو الخبر و‏{‏وَعْداً‏}‏ مصدراً مؤكداً، والأظهر أن يجعل هو الخبر أي كان ذلك وعداً أو موعوداً ‏{‏مَّسْئُولاً‏}‏ أي حقيقاً أن يسئل ويطلب لكونه مما يتنافس فيه المتنافسون أو سبباً لحصول ذلك فمسؤوليته كناية عن كونه أمراً عظيماً، ويجوز أن يراد كون الموعود مسؤولاً حقيقة بمعنى يسأله الناس في دعائهم بقولهم‏:‏

‏{‏رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 194‏]‏، وقال سعيد بن أبي هلال‏:‏ سمعت أبا حازم رضي الله تعالى عنه يقول‏:‏ إذا كان يوم القيامة يقول المؤمنون‏:‏ ربنا عملنا لك بما أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعْداً مَسْؤُولاً‏}‏‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سعيد هذا عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية‏:‏ إن الملائكة عليهم السلام لتسأل ذلك في قولهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التى وَعَدْتَّهُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 8‏]‏ والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم والإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام هو الفائز بمغانم الوعد الكريم‏.‏ واستشكلت الآية على مذهب الأشاعرة لأنها تدل على الوجوب على الله تعالى لمكان ‏{‏على‏}‏ وعندهم لا يجب عليه سبحانه شيء لاستلزام ذلك سلب الاختيار وعدم استحقاق الحمد، وأجيب بأن الوجوب الذي تدل عليه الآية وجوب بمقتضى الوعد والممتنع إيجاب الإلجاء والقسر من خارج لأنه السالب للاختيار الموجب للمفسدة دون إيجابه تعالى على نفسه شيئاً بمقتضى وعده وكرمه فإنه مسبوق بالإرادة والوجوب الناشىء من الإرادة لا ينافي الاختيار، وهذا ظاهر إذا كان الوعد حادثاً وأما إذا كان قديماً فالسابقية والمسبوقية بحسب الذات وذلك لا يستلزم الحدوث، أو يقال‏:‏ الحادث بالإرادة تعلقه بالموعود به فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ‏}‏ نصب على أنه مفعول لمضمر مقدم معطوف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أذلك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 15‏]‏ الخ أي قل لهم ذلك واذكر لهم بعد التقريع والتحسير يوم يحشرهم الله عز وجل، والمراد تذكيرهم بما فيه من الحوادث الهائلة على ما سمعت في نظائره أو على أنه ظرف لمضمر مؤخر قد حذف للتنبيه على كمال هو له وفظاعة ما فيه والإيذان بأن العبارة لا تحيط ببيانه أي ويوم يحشرهم يكون من الأحوال والأهوال ما لا يفي ببيانه المقال‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن عامر‏.‏ وكثير من السبعة ‏{‏نَحْشُرُهُمْ‏}‏ بنون العظمة بطريق الالتفات من الغيبة إلى التكلم‏.‏ وقرأ الأعرج ‏{‏يَحْشُرُهُمْ‏}‏ بكسر الشين، قال صاحب اللوامح‏:‏ في كل القرآن وهو القياس في الأفعال المتعدية الثلاثية لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فعل بضمها في الماضي، وقال ابن عطية‏:‏ وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضم العين، وفيه كلام ذكره أبو حيان في «البحر» ‏{‏وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ عطف على مفعول ‏{‏يَحْشُرُهُمْ‏}‏ وليست الواو للمعية وجوز ذلك أبو البقاء، والمراد بالموصول عند الضحاك‏.‏ وعكرمة‏.‏ والكلبي الأصنام بناءً أن السياق فيها وينطقها الله تعالى الذي لا يعجزه شيء، وقيل‏:‏ تتكلم بلسان الحال وليس بذاك‏.‏

وأخرج جماعة عن مجاهد أن المراد به الملائكة‏.‏ وعيسى‏.‏ وعزير‏.‏ وأضرابهم من العقلاء الذين عبدوا من دون الله سبحانه وتعالى وهو قول الجمهور على ما في «البحر» لأن السؤال والجواب يقتضيانه لاختصاصهما بالعقلاء عادة وإن كان الجماد ينطق يومئذٍ، وجاء فيما يشبه الاستفهام الآتي النص عليهم نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 40‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ والظاهر أن المراد بما على هذا القول العقلاء المعبودون الذين ليس منهم إضلال كالملائكة والأنبياء عليهم السلام لا ما يشملهم والشياطين مثلاً فإن الجواب يأبى ذلك بظاهره كما لا يخفى، وأطلقت ‏{‏مَا‏}‏ على العقلاء إما على أنها تطلق عليهم حقيقة أو مجازاً أو باعتبار الوصف كأنه قيل‏:‏ أو معبوديهم، وقال بعض الأجلة‏:‏ المراد ما يعم العقلاء وغيرهم إما لأن كلمة ما موضوعة للكل كما ينبىء عنه أنك إذا رأيت شبحاً من بعيد تقول‏:‏ ما هو‏؟‏ أو لأنه أريد بها الوصف فلا تختص حينئذٍ بغير العقلاء كما إذا أريد بها الذات أو لتغليب الأصنام على غيرها تنبيهاً على بعدهم عن استحقاق العبادة وتنزيلهم في ذلك منزلة من لا علم له ولا قدرة أو اعتباراً لغلبة عبدتها وكثرتهم ‏{‏فَيَقُولُ‏}‏ أي الله عز وجل للمعبودين من دونه أثر حشر الكل تقريعاً للعبدة وتبكيتاً لهم‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن عامر ‏{‏فنقول‏}‏ بنون العظمة أيضاً، ومن قرأ ممن عداهم هناك بالنون وهنا بالياء كان على قراءته هنا التفاتاً من التكلم إلى الغيبة، وفي نون العظمة هناك إشارة إلى أن الحشر أمر عظيم‏.‏

‏{‏ءأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاَء‏}‏ بأن دعوتموهم إلى عبادتكم وإضافة ‏{‏عِبَادِى‏}‏ قيل للترحم أو لتعظيم جرمهم لعبادة غير خالقهم أو لتعظيم أمر إضلالهم بدعوتهم إلى عبادتهم مع كونهم عباداً لله عز وجل و‏{‏هَؤُلاء‏}‏ بدل منه، وجوز أن يكون نعتاً له ‏{‏أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل‏}‏ أي عن السبيل بأنفسهم لا خلالهم بالنظر الصحيح وإعراضهم عن المرشد من كتاب أو رسول فحذف الجار وأوصل الفعل إلى المفعول كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يَهْدِى السبيل‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 4‏]‏ والأصل إلى السبيل أو للسبيل‏.‏

وذكر بعض الأجلة أنه لم يقل عن السبيل للمبالغة فإن ضله بمعنى فقده وضل عنه بمعنى خرج عنه‏.‏ والأول أبلغ لأنه يوهم أنه لا وجود له رأساً، وتقديم الضميرين على الفعلين لما أن المراد بالسؤال التقريعي هو المتصدي للفعل لا نفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية السؤال كأنه قيل‏:‏ فماذا قالوا في الجواب‏؟‏ فقيل قالوا‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ وكان الظاهر أن يعبر بالمضارع لمكان ‏{‏يِقُولُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 17‏]‏ أولاً، وكأن العدول إلى الماضي للدلالة على تحقق التنزيه والتبرئة وأنه حالهم في الدنيا، وقيل‏:‏ للتنبيه على أن إجابتهم بهذا القول هو محل الاهتمام فإن بها التبكيت والإلزام فدل بالصيغة على تحقق وقوعها، وسبحان إما للتعجب مما قيل لهم إما لأنهم جمادات لا قدرة لها على شيء أو لأنهم ملائكة أو أنبياء معصومون أو أولياء عن مثل ذلك محفوظون وإمّا هو كناية عن كونهم موسومين بتسبيحه تعالى وتوحيده فكيف يتأتى منهم إضلال عباده وإمّا هو على ظاهره من التنزيه والمراد تنزيهه تعالى عن الأضداد، وهو على سائر الأوجه جواب إجمالي إلا أن في كونه كذلك على الأخير نوع خفاء بالنسبة إلى الأولين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَا‏}‏ الخ كالتأكيد لذلك والتفصيل له‏.‏

وجعل الطيبي قولهم‏:‏ ‏{‏سبحانك‏}‏ توطئة وتمهيداً للجواب لقولهم‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ‏}‏ الخ أي ما صح وما استقام لنا ‏{‏أَن تَتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ أي أولياء على أن ‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة لتأكيد النفي‏.‏ ويحسن زيادتها بعد النفي والمنفي وإن كان ‏{‏كَانَ‏}‏ لكن هذا معمول معمولها فينسحب النفي عليه‏.‏ والمراد نفي أن يكونوا هم مضليهم على أبلغ وجه كأنهم قالوا‏:‏ ما صح وما استقام لنا أن نتخذ متجاوزين إياك أولياء نعبدهم لما بنا من الحالة المنافية له فأنى يتصور أن نحمل غيرنا على أن يتخذ ولياً غيرك فضلاً أن يتخذنا ولياً، وجوز أن يكون المعنى ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أتباعاً فإن الولي كما يطلق على المتبوع يطلق على التابع ومنه أولياء الشيطان أي أتباعه‏.‏ وقرأ أبو عيسى الأسود القارىء ‏{‏يَنبَغِى‏}‏ بالبناء للمفعول‏.‏ وقال ابن خالويه‏:‏ زعم سيبويه أن ذلك لغة‏.‏

وقرأ أبو الدرداء‏.‏ وزيد بن ثابت‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ ونصر بن علقمة‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وأخوه الباقر رضي الله تعالى عنهما‏.‏ ومكحول‏.‏ والحسن‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وحفص بن عبيد‏.‏ والنخعي‏.‏ والسلمي‏.‏ وشيبة‏.‏ وأبو بشر‏.‏ والزعفراني ‏{‏يَتَّخِذِ‏}‏ مبنياً للمفعول‏.‏ وخرج ذلك الزمخشري على أنه من اتخذ المتعدي إلى مفعولين والمفعول الأول ضمير المتكلم القائم مقام الفاعل والثاني ‏{‏مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ ومن تبعضية لا زائدة أي أن يتخذونا بعض الأولياء، ولم يجوز زيادتها بناءً على ما ذهب إليه الزجاج من أنها لا تزاد في المفعول الثاني، وعلله في «الكشف» بأنه محمول على الأول يشيع بشيوعه ويخص كذلك، ومراده أنه إذا كان محمولاً لإيراد صدقه على غيره فيشيع ويخص كذلك في الإرادة فلا يرد زيد حيوان فإن المحمول باق على عمومه مع خصوص الموضوع، وقيل‏:‏ مراده أن الاختلاف لا يناسب مع إمكان الاتحاد والمثال ليس كذلك‏.‏

والزمخشري لما بنى كلامه على ذلك المذهب والتزم التبعيض جاء الإشكال في تنكير ‏{‏أَوْلِيَاء‏}‏ فأجاب بأنه للدلالة على الخصوص وامتيازهم بما امتازوا وهو للتنويع على الحقيقة‏.‏

وقال السجاوندي‏:‏ المعنى ما ينبغي لنا أن نحسب من بعض ما يقع عليه اسم الولاية فضلاً عن الكل فإن الولي قد يكون معبوداً ومالكاً وناصراً ومخدوماً‏.‏ والزجاج خفي عليه أمر هذه القراءة على مذهبه فقال‏:‏ هذه القراءة خطأ لأنك تقول‏:‏ ما اتخذت من أحد ولياً ولا يجوز ما اتخذت أحداً من ولي لأن من إنما دخلت لأنها تنفي واحداً في معنى جميع ويقال‏:‏ ما من أحد قائماً وما من رجل محباً لما يضره ولا يقال‏:‏ ما قائم من أحد وما رجل من محب لما يضره ولا وجه عندنا لهذا البتة ولو جاز هذا لجاز في ‏{‏فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجزين‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 47‏]‏ ما منكم أحد عنه من حاجزين‏.‏ وأجاز الفراء هذه القراءة عن ضعف وزعم أن ‏{‏مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ هو الاسم وما في ‏{‏يَتَّخِذِ‏}‏ هو الخبر كأنه يجعله على القلب انتهى‏.‏

ونقل صاحب المطلع عن صاحب النظم أنه قال‏:‏ الذي يوجب سقوط هذه القراءة أن من لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ‏}‏ ‏(‏مريم؛ 35‏)‏ فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخولها كما في الآية على هذه القراءة‏.‏ ولا يخفى عليك أن في الإقدام على القول بأنها خطأ أو ساقطة مع روايتها عمن سمعت من الأجلة خطراً عظيماً ومنشأ ذلك الجهل ومفاسده لا تحصى‏.‏ وذهب ابن جني إلى جواز زيادة من في المفعول الثاني فيقال‏:‏ ما اتخذت زيداً من وكيل على معنى ما اتخذته وكيلاً أي وكيل كان من أصناف الوكلاء‏.‏ ومعنى الآية على هذا المنول ما ينبغي لنا أن يتخذونا من دونك أولياء أي أولياء أي ما يقع عليه اسم الولاية‏.‏ وجوز أن يكون ‏{‏نَّتَّخِذَ‏}‏ على هذه القراءة مما له مفعول واحد ‏{‏وَمِنْ دُونِكَ‏}‏ صلة و‏{‏مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ حال و‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة وعزا هذا في «البحر» إلى ابن جني‏.‏ وجوز بعضهم كون ‏{‏نَّتَّخِذَ‏}‏ في القراءة المشهورة من اتخذ المتعدي لمفعولين، وجعل أبو البقاء على هذا ‏{‏مِنْ أَوْلِيَاء‏}‏ المفعول الأول بزيادة من و‏{‏مِن دُونِكَ‏}‏ المفعول الثاني وعلى كونه من المتعدي لواحد يكون هذا حالاً‏.‏

وقرأ الحجاج «أن نتخذ من دونك أولياء» فبلغ عاصماً فقال‏:‏ مقت المخدج أو ما علم أن فيها من‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ‏}‏ الخ استدراك مسوق لبيان أنهم هم الضالون بعد بيان تنزههم عن إضلالهم على أبلغ وجه كما سمعت، وقد نعى عليهم سوء صنيعهم حيث جعلوا أسباب الهداية أسباباً للضلالة أي ما أضللناهم ولكن متعتهم وآباءهم بأنواع النعم ليعرفوا حقها ويشكروها فاستغرقوا في الشهوات وانهمكوا فيها ‏{‏حتى نَسُواْ الذكر‏}‏ أي غفلوا عن ذكرك والإيمان بك أو عن توحيدك أو عن التذكر لنعمك وآيات ألوهيتك ووحدتك‏.‏

وفي «البحر» الذكر ما ذكر به الناس على ألسنة الأنبياء عليهم السلام أو الكتب المنزلة أو القرآن، ولا يخفى ما في الأخير إذا قيل‏:‏ بعموم الكفار والمخبر عنهم في الآية وشمولهم كفار هذه الأمة وغيرهم ‏{‏وَكَانُواْ‏}‏ أي في علمك الأزلي المتعلق بالأشياء على ما هي عليه في أنفسها أو بما سيصدر عنهم فيما لا يزال باختيارهم وسوء استعدادهم من الأعمال السيئة ‏{‏قَوْماً بُوراً‏}‏ هالكين على أن ‏{‏بُوراً‏}‏ مصدر وصف به الفاعل مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع، وأنشدوا‏:‏ فلا تكفروا ما قد صنعنا إليكم *** وكافوا به فالكفر بور لصانع

وقول ابن الزبعري‏:‏ يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بور

أو جمع بأثر كعوذ في عائذ وتفسيره بهالكين رواه ابن جرير‏.‏ وغيره عن مجاهد، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نافع بن الأزرق ساله عن ذلك فقال‏:‏ هلكى بلغة عمان وهم من اليمن، وقيل‏:‏ بوراً فاسدين في لغة الأزد ويقولون‏:‏ أمر بائر أي فاسد وبارت البضاعة إذا فسدت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ بوراً لا خير فيهم من قولهم‏:‏ أرض بور أي متعطلة لا نبات فيها، وقيل‏:‏ بوراً عمياً عن الحق، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله على ما قال أبو السعود‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ هي حال بتقدير قد أو معطوفة على مقدر أي كفروا وكانوا أو على ما قبلها، وقد شنع الزمخشري بما ذكر من السؤال والجواب على أهل السنة فقال‏:‏ فيه كسر بين لقول من يزعم أن الله تعالى يضل عباده على الحقيقة حيث يقول سبحانه للمعبودين من دونه‏:‏ أأنتم أضللتم أم هم ضلوا بأنفسهم فيتبرؤن من إضلالهم ويستعيذون به أن يكونوا مضلين ويقولون‏:‏ بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وآبائهم تفضل جواد كريم فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر وكان ذلك سبب هلاكهم فإذا برأت الملائكة والرسل عليهم السلام أنفسهم من نسبة الإضلال الذي هو عمل الشياطين إليهم واستعاذوا منه فهم لربهم الغني العدل أشد تبرئة وتنزيهاً منه‏.‏ ولقد نزهوه تعالى حين أضافوا إليه سبحانه التفضل بالنعمة والتمتيع بها وأسندوا نسيان الذكر والتسبب به للبوار إلى الكفرة فشرحوا الإضلال المجازي الذي أسنده الله تعالى إلى ذاته في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏يُضِلُّ مَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 27‏]‏ ولو كان سبحانه هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أن يقولوا بل أنت أضللتهم انتهى‏.‏ وأجاب صاحب الفرائد عن قوله‏:‏ فيتبرؤن من إضلالهم الخ بأنهم إنما تبرؤا لأنهم يستحقون العذاب بإضلالهم ولم يكن منهم فوجب عليهم أن يقولوا ذلك ليندفع عنهم ما يستحقون به من العذاب وذلك أنهم مسؤولون عما يفعلون والله عز وجل لا يسأل عما يفعل فيلحق بهم النقصان إن ثبت عليهم ولا يمكن لحوقه به تعالى لأنه سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وعن قوله‏:‏ ولقد نزهوه حيث أضافوا الخ بأن قولهم ولكن متعتهم الخ لا ينافي نسبة الإضلال إليه سبحانه على الحقيقة وأيضاً ما يؤدي إلى الضلال إذا كان منه تعالى وكان معلوماً له عز وجل أنهم يضلون به كان فيه ما في الإضلال بالحقيقة فوجب على مذهبه أنه لا يجوز عليه سبحانه مع أنهم نسبوه إليه سبحانه، وعن قوله‏:‏ ولو كان تعالى هو المضل على الحقيقة لكان الجواب العتيد أنت أضللتهم بأن هذا غير مستقيم لأنه تعالى ما سألهم إلا عن أحد الأمرين وما ذكر لا يصلح جواباً له بل هو جواب لمن قال‏:‏ من أضلهم انتهى، وذكر في «الكشف» جواباً عن الأخير أنه ليس السؤال عن تعيين من أضل لأنه تعالى عالم به وإنما هو سؤال تقريع على نحو ‏{‏قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ الخ وقد اقتدى بالإمام في ذلك، وذكر أيضاً قبل هذا الجواب أنه لو قيل‏:‏ إن في ‏{‏مَّتَّعْتَهُمْ وَءابَاءهُمْ‏}‏ ما يدل على أنه تعالى الفاعل الحقيقي للإضلال وأنه لا ينسب إليه سبحانه أدباً لكان وجهاً ولا ينبغي أن يكون ذلك بعد التسليم المقصود من الجواب بمتعتهم الخ بأن يكون المراد الجواب بأنت أضللتهم لكن عدل عنه إلى ما في «النظم الجليل» أدباً لأن الجواب بذلك مما لا يقتضيه السياق كما لا يخفى‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ إن جواب المسؤولين بما ذكر يدل على معتقدهم الموافق لما عليه أهل الحق لأن أهل الحق يعتقدون أن الله تعالى وإن خلق الضلال إلا أن للعباد اختياراً فيه وعندهم أن كل فعل اختياري له نسبتان إن نظر إلى كونه مخلوقاً فهو منسوب إلى الله تعالى وإن نظر إلى كونه مختاراً للعبد فهو منسوب للعبد وهؤلاء المجيبون نسبوا النسيان أي الانهماك في الشهوات الذي ينشأ عنه النسيان إلى الكفرة لأنهم اختاروه لأنفسهم فصدقت نسبته إليهم ونسبوا السبب الذي اقتضى نسيانهم وانهماكهم في الشهوات إلى الله تعالى وهو استدراجهم ببسط النعم عليهم وصبها صباً فلا تنافي بين معتقد أهل الحق ومضمون ما قالوا في الجواب بل هما متواطئان على أمر واحد انتهى‏.‏

ولا يخفى ما في بيان التوافق من النظر، وقد يقال‏:‏ حيث كان المراد من الاستفهام تقريع المشركين وعلم المستفهمين بذلك مما لا ينبغي أن ينكر لا سيما إذا كانوا الملائكة والأنبياء عليهم السلام جىء بالجواب متضمناً ذلك على أتم وجه مشتملاً على تحقق الأمر في منشأ ضلالهم كل ذلك للاعتناء بمراده تعالى من تقريعهم وتبكيتهم ولذا لم يكتفوا في الجواب ب

‏{‏هم ضلوا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 17‏]‏ بل افتتحوا بالتسبيح ثم نفوا عن أنفسهم الإضلال على وجه من المبالغة ليس وراءه وراء ثم أفادوا أنهم ضلوا بعد تحقق ما ينبغي أن يكون ذريعة لهم إلى الاهتداء من تمتيعهم بأنواع النعم وذلك من أقبح الضلال ونبهوا على زيادة قبحه فوق ما ذكر بالتعبير عنه بنسيان الذكر ثم ذكروا منشأ ضلالهم والأصل الأصيل فيه بقولهم‏:‏ ‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً‏}‏ أما على معنى كانوا في نفس الأمر قوماً فاسدين وإن شئت قلت هالكين ونحوه مما تقدم فظهروا على حسب ما كانوا لأن ما في نفس الأمر لا يتغير أو على معنى كانوا في العلم التابع للمعلوم في نفسه كذلك فظهروا على حسب ذلك لئلا يلزم الانقلاب المحال، وحاصله أن منشأ ضلالهم فساد استعدادهم في نفسه من غير مدخلية للغير في التأثير فيه وهذا شأن جميع ماهيات الأشياء في أنفسها فإن مدخلية الغير إنما هي في نحو وجودها الخارجي لا غير، وإلى هذا ذهب جمع من الفلاسفة والصوفية وشيد أركانه الشيخ إبراهيم الكوراني عليه الرحمة في أكثر كتبه فإن كان مقبولاً فلا بأس في تخريج الآية الكريمة عليه فتدبر

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ‏}‏ حكاية لاحتجاجه تعالى على العبدة بطريق تلوين الخطاب وصرفه عن المعبودين عند تمام جوابهم وتوجيهه إلى العبدة مبالغة في تقريعهم وتبكيتهم على تقدير قول مرتب على الجواب أي فقال الله تعالى عند ذلك‏:‏ قد كذبكم المعبودون أيها الكفرة، وقال بعض الأجلة‏:‏ الفاء فصيحة مثلها في قول عباس بن الأحنف‏:‏ قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

والتقدير هنا قلنا أو قال تعالى إن قلتم إنهم آلهة فقد كذبوكم ‏{‏بِمَا تَقُولُونَ‏}‏ أي في قولكم على أن الباء بمعنى في وما مصدرية والجار والمجرور متعلق بالفعل والقول بمعنى المقول، ويجوز أن تكون ما موصولة والعائد محذوف أي في الذي تقولونه، وجوز أن تكون الباء صلة والمجرور بدل اشتمال من الضمير المنصوب في كذبوكم، والمراد بمقولهم أنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا، وتعقب بأن تكذيبهم في هذا القول لا تعلق له بما بعده من عدم استطاعتهم للصرف والنصر أصلاً وإنما الذي يستتبعه تكذيبهم في زعمهم أنهم آلهتهم وناصروهم وفيه نظر كما سنشير إليه قريباً إن شاء الله تعالى، وقيل‏:‏ الخطاب للمعبودين أي فقد كذبكم العابدون أيها المعبودون في قولكم ‏{‏سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 18‏]‏ حيث زعموا أنكم آلهة، والمراد الحكم على أولئك المكذبين بالكفر على وجه فيه استزادة غيظ المعبودين عليهم وجعله مفرعاً عليه ما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

والفاء أيضاً فصيحة، والجملة جزاء باعتبار الأخبار، وقيل‏:‏ هو خطاب للمؤمنين في الدنيا أي فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفرة في الدنيا فيما تقولونه من التوحيد وجىء بالكلام ليفرع عليه ما بعد وكلا القولين كما ترى والثاني أبعدهما، وقرأ أبو حيوة ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ بالياء آخر الحروف وهي رواية عن ابن كثير‏.‏ وقنبل، والخطاب في ‏{‏كَذَّبُوكُمْ‏}‏ للعابدين وضمير الجمع فيه وفي ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ للمعبودين أي فقد كذبكم أيها العبدة المعبودون بزعمكم بقولهم ‏{‏سبحانك‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 18‏]‏ الخ والباء للملابسة أو الاستعانة، وفيه أيضاً القولان السابقان أي فقد كذبكم أيها المعبودون العبدة بقولهم إنكم آلهة أو فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار في التوحيد بقولهم‏.‏ إن هؤلاء المحكي عنهم آلهة ‏{‏فَمَا تَسْتَطِيعُونَ‏}‏ أي فما تملكون أيها العبدة ‏{‏صَرْفاً‏}‏ أي دفعاً للعذاب عن أنفسكم بوجه من الوجوه كما يعرب عنه التنكير أي لا بالذات ولا بالواسطة، وقيل‏:‏ حيلة من قولهم‏:‏ إنه ليصرف في أموره أي يحتال فيها، وقيل‏:‏ توبة، وقيل‏:‏ فدية والأول أظهر فإن أصل الصرف رد الشيء من حالة إلى أخرى وإطلاقه على الحيلة أو التوبة أو الفدية مجاز، والمراد فما تملكون دفعاً للعذاب قبل حلوله ‏{‏وَلاَ نَصْراً‏}‏ أي فرداً من أفراد النصر أي العون لا من جهة أنفسكم ولا من جهة غيركم بعد حلوله، وقيل‏:‏ نصراً جمع ناصر كصحب جمع صاحب وليس بشيء، والفاء لترتيب عدم الاستطاعة على ما قبلها من التكذيب لكن لا على معنى أنه لولاه لوجدت الاستطاعة حقيقة بل في زعمهم حيث كانوا يزعمون أنهم يدفعون عنهم العذاب وينصرونهم وفيه ضرب تهكم بهم، والمراد من التكذيب المرتب عليه ما ذكر تكذيبهم بقولهم إنهم آلهة، ويجوز أن يراد به تكذيبهم بقولهم‏:‏ هؤلاء أضلونا وهو متضمن نفي كونهم آلهة وبذلك يتم أمر الترتيب‏.‏

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وأكثر السبعة ‏{‏يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ بالياء التحتية أي فما يستطيع آلهتكم دفعاً للعذاب عنكم، وقيل حيلة لدفعه، وقيل فدية عنكم ولا نصراً لكم، وقيل في معنى الآية على تقدير كون الخطاب السابق للمؤمنين إنه سبحانه أراد أن هؤلاء الكفرة شديد والشكيمة في التكذيب الموجب للتعذيب فما تستطيعون أنتم صرفهم عنه ولا نصراً لكم فيما يصيبهم مما يستوجبه من العذاب هذا على قراءة حفص ‏{‏تَسْتَطِيعُونَ‏}‏ بالتاء الفوقية؛ وأما على قراءة الجماعة ‏{‏يَسْتَطِيعُونَ‏}‏ بالياء فالمعنى ما يستطيعون صرفاً لأنفسهم عما هم عليه ولا نصراً لها فيما استوجبوه بتكذيبهم من العذاب أو فيما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه ولا نصراً لأنفسهم من العذاب انتهى وهو كما ترى ‏{‏وَمَن يَظْلِم‏}‏ أي يكفر ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ أيها المكلفون ويعبد من دون الله تعالى إلهاً آخر كهؤلاء الكفرة ‏{‏نُذِقْهُ‏}‏ في الآخرة ‏{‏عَذَاباً كَبِيراً‏}‏ لا يقادر قدره وهو عذاب النار، وقرىء ‏{‏يذقه‏}‏ على أن الضمير لله عز وجل، وقيل‏:‏ لمصدر يظلم أي يذقه الظلم والإسناد مجازي، وتفسير الظلم بالكفر هو المروى عن ابن عباس، والحسن‏.‏ وابن جريج‏.‏ وأيد بأن المقام يقتضيه فإن الكلام في الكفر ووعيده من مفتتح السورة، وجوز أن يراد به ما يعم الشرك وسائر المعاصي والوعيد بالعذاب لا ينافي العفو بالنسبة إلى غير المشرك لما حقق في موضعه‏.‏ واختار الطيبي التفسير الأول وجعل الخطاب للكفار أيضاً لأن الكلام فيهم من أول وقد سبق ‏{‏بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ‏}‏ وهذه الآية لما يجري عليهم من الأهوال والنكال من لدن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا رَأَيْتَهُمْ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 12‏]‏ ومعنى ‏{‏وَمَن يَظْلِم‏}‏ حينئذٍ ومن يدم على الظلم، وفي «الكشف» الوجه أن الخطاب عام والظلم الكفر ‏{‏وَمَن يَظْلِم‏}‏ مظهر أقيم مقام المضمر تنبيهاً على توغلهم في الكفر وتجاوزهم حد الإنصاف والعدل إلى محض الاعتساف والجدل فيما رموا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الأصل فلا يستطيعون صرفاً ولا نصراً ونذيقهم عذاباً كبيراً أو نذيقكم على اختلاف القرائتين والحمل على من يدم على الظلم منكم ليختص الخطاب بالكفار صحيح أيضاً ولكن تفوته النكتة التي ذكرناها انتهى‏.‏ ولا يخفى أن كونه من إقامة المظهر مقام المضمر خلاف الظاهر فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الاسواق‏}‏ قيل هو تسلية له صلى الله عليه وسلم عن قولهم ‏{‏مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 7‏]‏ بأن لك في سائر الرسل عليهم السلام أسوة حسنة فإنهم كانوا كذلك، وقال الزجاج‏:‏ احتجاج عليهم في قولهم ذلك كأنه قيل كذلك كان من خلا من الرسل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق فكيف يكون محمد صلى الله عليه وسلم بدعاً من الرسل عليهم السلام‏.‏ ورده الطيبي بأنه لا يساعد عليه «النظم الجليل» لأنه قد أجيب عن تعنتهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 48‏]‏ وتعقبه في «الكشف» بقوله‏:‏ ولقائل أن يقول هذا جواب آخر كما أجيب هنالك من أوجه على ما نقل عن الإمام وجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ‏}‏ جواباً ثالثاً وعقبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 11‏]‏ لمكان المناسبة وتم الوعيد ثم أجابهم سبحانه جواباً آخر يتضمن التسلية أيضاً وهذا يساعد عليه «النظم الجليل»، والجملة التي بعد إلا قيل صفة ثانية لموصوف مقدر قبل ‏{‏مِنَ المرسلين‏}‏ والمعنى ما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين‏.‏

وتعقب بأن فيه الفصل بين الموصوف والصفة بإلا وقد رده أكثر النحاة كما في «المغني»، ومن هنا جعلها بعضهم صفة لموصوف مقدر بعد إلا وذلك بدل مما حذف قبل وأقيمت صفته مقامه، والمعنى ما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا رجالاً أو رسلاً أنهم الخ، وفيه الفصل بين البدل والمبدل منه وهو جائز عندهم‏.‏ وقدر الفراء بعد إلا من وهي تحتمل أن تكون موصولة وأن تكون نكرة موصوفة، وجعل بعضهم الجملة في محل نصب بقول محذوف وجملة القول صفة أي إلا رجالاً أو رسلاً قيل أنهم الخ وهو كما ترى، وقال ابن الأنباري‏:‏ الجملة حالية والاستثناء من أعم الأحوال والتقدير إلا وإنهم‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ وهو المختار، وقدر الواو بناءً على أن الاكتفاء في مثل هذه الجملة الحالية بالضمير غير فصيح، وربما يختار عدم التقدير ويمنع دعوى عدم الفصاحة أو يحمل ذلك على غير المقترن بإلا لأنه في الحقيقة بدل، ووجه كسر إن وقوعها في الابتداء ووقوع اللام بعدها أيضاً‏.‏ وقرىء ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بالفتح على زيادة اللام بعدها وتقدير جار قبلها أي لأنهم يأكلون الخ‏.‏ والمراد ما جعلناهم رسلاً إلى الناس إلا لكونهم مثلهم، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وعبد الرحمن بن عبد الله ‏{‏يَمْشُونَ‏}‏ بتشديد الشين المفتوحة مع ضم الياء مبنياً للمفعول أي يمشيهم حوائجهم أو الناس والتضعيف للتكثير كما في قول الهذلي‏:‏ يمشي بيننا حانوت خمر‏.‏‏.‏‏.‏

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي كما في «البحر» ‏{‏يَمْشُونَ‏}‏ بضم الياء والشين مع التشديد مبنياً للفاعل وهو مبالغة يمشي المخفف فهي مطابقة للقراءة المشهورة ولا يحتاج إلى تقدير يمشيهم حوائجهم ونحوه‏.‏ وأنشدوا قوله‏:‏ ومشى بأغصان المباءة وابتغى *** قلائص منها صعبة وذلول

وقوله‏:‏ فقد تركت خزينة كل وغد *** يمشي بين خاتام وطاق

وفي بعض نسخ الكشاف ما يدل على أنه لم يظفر بهذه القراءة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ‏}‏ قيل تسلية له صلى الله عليه وسلم أيضاً لكن عن قولهم‏:‏ ‏{‏أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 8‏]‏ أي وجعلنا أغنياءكم أيها الناس ابتلاء لفقرائكم لننظر هل يصبرون ‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏ أي عالماً بالصواب فيما يبتلى به وغيره فلا يضيقن صدرك ولا تستخفنك أقاويلهم، وقيل تصبير له عليه الصلاة والسلام على ما قالوه واستبدعوه من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد الاحتجاج عليهم بسائر الرسل، والكلام من تلوين الخطاب بتعميمه لسائر الرسل عليهم السلام بطريق التغليب على ما اختاره بعضهم، والمراد بالبعض الأول كفار الأمم واختصاصهم بالرسل مصحح لأن يعدوا بعضاً منهم وبالبعض الثاني رسلهم على معنى جعلنا كل بعض معين من الأمم فتنة لبعض معين من الرسل كأنه قيل وجعلنا كل أمة مخصوصة من الأمم الكافرة فتنة لرسولها المعين‏.‏ وإنما لم يصرح بذلك تعويلاً على شهادة الحال، وحاصله جرت سنتنا بموجب حكمتنا على ابتلاء المرسلين بأممهم وبمناصبتهم لهم العداوة وإطلاق ألسنتهم فيهم بالأقاويل الخارجة عن حد الإنصاف وسلوكهم في أذاهم كل مسلك لنعلم صبرهم أو هو خطاب للناس كافة على ما قيل وهو الظاهر، والبعض الأول أعم من الكفار والأغنياء والأصحاء وغيرهم ممن يصلح أن يكون فتنة والبعض الثاني أعم من الرسل والقراء والمرضى وغيرهم ممن يصلح أن يفتن‏.‏ والكلام عليه مفيد لتصبره صلى الله عليه وسلم على ما قالوه وزيادة، وقيل‏:‏ المراد بالبعض الأول من لا مال له من المرسلين وبالبعض الثاني أممهم ويدخل في ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته دخولاً أولياً فكأنه قيل جعلناك فتنة لأمتك لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكان ميلهم إليك وطاعتهم لك للدنيا أو ممزوجة بالدنيا وإنما بعثناك لا مال لك ليكون طاعة من يطيعك منهم خالصة لوجه الله تعالى من غير طمع دنيوي وكذا حال سائر من لا مال له من المرسلين مع أممهم والأظهر عموم الخطاب والبعضين وهو الذي تقتضيه الآثار وإليه ذهب ابن عطية فقال‏:‏ ذلك عام للمؤمن والكافر فالصحيح فتنة للمريض والغنى فتنة للفقير والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره وكذلك العلماء وحكام العدل، وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب انتهى‏.‏

واختار ذلك أبو حيان‏.‏ ولا يضر فيه خصوص سبب النزول‏.‏ فقد روي عن الكلبي أنها نزلت في أبي جهل‏.‏ والوليد بن المغيرة‏.‏ والعاصي بن وائل‏.‏ ومن في طبقتهم قالوا‏:‏ إن أسلمنا وقد أسلم قبلنا عمار‏.‏ وصهيب‏.‏ وبلال‏.‏ وفلان‏.‏ وفلان ترفعوا علينا إدلالاً بالسابقة‏.‏ والاستفهام إما في حيز التعليل للجعل ومعادله محذوف كما حذف فيما لا يحصى من الأمثلة والتقدير لنعلم أتصبرون أم لا أي ليظهر ما في علمنا‏.‏ وقرينة تقدير العلم تضمن الفتنة إياه‏.‏ وإما أن لا يكون في حيز التعليل وليس هناك معادل محذوف بأن يكون للترغيب والتحريض والمراد اصبروا فإني ابتليت بعضكم ببعض‏.‏ ويجوز أن لا يقدر معادل على تقدير اعتبار التعليل أيضاً بأن يكون الخطاب للرسل عليهم السلام على ما سمعت‏.‏ وجعل ابن عطية الخطاب فيما سبق عاماً وفي ‏{‏أَتَصْبِرُونَ‏}‏ خاصاً بالمؤمنين الذين جعل إمهال الكفار فتنة لهم في ضمن العموم السابق وقدر معادلاً فقال‏:‏ كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين ثم وقفهم أتصبرون أم لا‏.‏ وجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً‏}‏ وعداً للصابرين ووعيداً للعاصين‏.‏ وجعله بعضهم وعداً للرسول صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل مع مزيد تشريف له عليه الصلاة والسلام بالالتفات إلى اسم الرب مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم‏.‏ وجوز أن يكون وعيداً لأولئك المعاندين له عليه الصلاة والسلام جىء به إتماماً للتسلية أو التصبر وليس بذاك‏.‏ واستدل بالآية على القضاء والقدر فإنها أفادت أن أفعال العباد كعداوة الكفار وإيذائهم بجعل الله تعالى وإرادته والفتنة بمعنى الابتلاء وإن لم تكن من أفعال العباد إلا أنها مفضية ومستلزمة لما هو منها‏.‏ وفيه من الخفاء ما فيه‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏